حينما قربت ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للسيدة أُمّ المؤمنين خديجة : « يا خديجة ، هذا جبرئيل يبشرني أنّها أُنثى ، وأنّها النسمة الطاهرة الميمونة ، وأنّ الله سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة في الاُمّة ، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه ، ووضعت خديجة فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرّة ... » (1) .
وخديجة الكبرى عليها السلام لم تسترضع لفاطمة الزهراء عليها السلام ، فقد ألقمتها ثديها فدرّ عليها وشربت (2) ، وهو صريح خبرٍ عن ابن عباس أيضاً (3) .
ولاريب أن أفضل غذاء للطفل هو حليب الاُمّ ، وقد أثبتت التجارب العلمية أثره في بناء الطفل الجسدي والنفسي ، وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال : « ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه » (4) وتوالت على الزهراء عليها السلام بعد نشأتها المشاهد القاسية التي كانت أليمة الوقع على نفسها الطاهرة وقلبها العطوف منذ نعومة أظفارها ، فقد فتحت عينها عليها السلام على المحن التي قاساها أبوها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الدعوة ، وما رافقها من التعذيب والتنكيل بالمستضعفين من أتباعه ، وهجرتهم إلى الحبشة ، وحصار بني هاشم في شعب أبي طالب نحو ثلاث سنين قضتها الزهراء عليها السلام مع أمّها وأبيها ( صلوات الله عليهم ) بحرمان وفاقة وانقطاع عن الناس.
ولم تهنأ الزهراء عليها السلام بالعيش الرغيد مع أُمّها وأبيها ( صلوات الله عليها ) بعد خروجهم من مخمصة الشعب إلاّ نحو عام واحد ، حيث فجعت بوفاة أُمّها الرؤوم التي كانت تمنحها الدفء والحنان ، وتضفي عليها الحبّ والأمان ، قال الإمام الصادق عليه السلام : « فجعلت تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله وتسأله : يا أبتاه اين أُمّي؟ فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يجيبها ، فجعلت تدور وتسأله : يا أبتاه أين أُمّي؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدري ما يقول ، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : إنّ ربك يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها : إنّ أُمّك في بيت من قصب ، كعابه من ذهب ، وعمده ياقوت أحمر ، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، فقالت فاطمة عليها السلام : إنّ الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه السلام » (5) .
وفي العام نفسه والزهراء عليها السلام لمّا تبلغ الخامسة من العمر ، فُجِعت رسالة الإسلام بموت كفيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناصره وحامي رسالته عمه أبي طالب عليه السلام فكان عام الحزن وفراق الأحبّة ، واشتداد شوكة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المستضعفين ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب » (6) وقد وصلوا من أذاه إلى مالم يكونوا يصلون إليه في حياة أبي طالب عليه السلام حتى نثر بعضهم التراب على رأسه الكريم ، وكانت الزهراء عليها السلام ترى بعينيها ما يفعله المستهزئون ويقوله المتآمرون من أجلاف قريش ، فكانت تحنو على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم كالاُمّ الرؤوم ، وتغمره بحنانها وتفديه بروحها وتميط عنه الأذى ، وتخفّف من آلامه ، وتهب لنصرته وتقوم على خدمته فهو صلى الله عليه وآله وسلم حياتها كلّها ، تبتسم لابتسامته ، وتصب الدمع الهتون إذا ما مسّه لغب ولو من عذب النسيم! ، وكان ذلك أحد الوجوه المذكورة في سبب تكنيتها بأُمِّ أبيها من والدها صلى الله عليه وآله وسلم .
وروى مسلم في الصحيح عن ابن مسعود قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس ، فقال أبو جهل : أيكم يقوم إلى سَلَى جزور بني فلان فيأخذه ، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه ، فلمّا سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه ، قال : فاستضحكوا ، وجعل بعضهم يميل على بعض ، وأنا قائم أنظر لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ساجد ما يرفع رأسه ، حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمة ، فجاءت وهي جُوَيريّة (7) فطرحته عنه ، ثم أقبلت عليهم تشتمهم ، فلمّا قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته رفع صوته ، ثم دعا عليهم (
.
وروى مسلم والبخاري في الصحيح عن عبدالله ، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجد وحوله ناس من قريش ، إذ جاء عُقبة بن أبي مُعيط بسَلَى جزور ، فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ، ودعت على من صنع ذلك ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « اللهمَّ عليك الملأ من قريش؛ أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة ، وأُميّة بن خلف ـ أو أُبي بن خلف ـ » قال عبدالله : فلقد رأيتهم قُتِلوا يوم بدر ، فاُلقوا في القليب (9) .
وروى البيهقي بالاسناد عن ابن عباس عن فاطمة عليها السلام قالت : « اجتمع مشركو قريش في الحجر ، فقالوا : إذا مرّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ضربه كل واحد منّا ضربة ، فسَمِعته (فاطمة) فدخلت على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : يا بنية اسكني ، ثم خرج فدخل عليهم المسجد ، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا ، فأخذ قبضةً من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال : شاهت الوجوه ، فما أصاب رجلاً منهم إلاّ قتل يوم بدر كافرا » (10) .
وهذه النصوص تكشف لنا عن أداء الزهراء عليها السلام لدورها الرسالي في الوقوف إلى جنب أبيها صلى الله عليه وآله وسلم منذ مطلع الدعوة ، والذبّ عنه وحمايته ونصرة دعوته ، في مواقع تنكص فيها الشجعان عن المواجهة وتتردّد فيها الرجال عن المنازلة ، هذا على الرغم من صغر سنها.
ومن هنا نعلم أن فاطمة عليها السلام بعد فقد أُمّها لم تكن تلك اليتيمة التي تشكّل عبئاً على أبيها ، بل وقفت موقف العالمة بظروف أبيها صلى الله عليه وآله وسلم الداركة لخطر الرسالة التي يدعو لها ، وما يحيط به من شدائد وأهوال وعداوات ، فصارت ربّة بيته التي تكفيه التفكير بمشاغل البيت ، ووقفت إلى جنبه موقف المرأة البطلة المكافحة والمضحية براحتها ورفاهيتها ، وليس ثمّة كلمة تعبّر عن تقديره صلى الله عليه وآله وسلم لما لقي من ابنته الصغيرة في مواقفها المختلفة ، أفضل من ( أُمّ أبيها ) في أحد معاني هذه الكنية العظيمة.
وإذا كانت فاطمة الزهراء عليها السلام قد فُجعت بأمّها وهي بأمسّ الحاجة إليها ، فقد صارت أشدّ لصوقاً بأبيها صلى الله عليه وآله وسلم لتنهل من سجايا نفسه الزكية ومكارم خلقه الرفيع ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفيض عليها بحبّه وعطفه وشفقته ليعوضها عن شعورها بالحرمان من أُمّها.
وقد قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل فاطمة عليها السلام عند ابنة عمّه أمّ هانىء بنت أبي طالب بعد وفاة خديجة عليها السلام لرعايتها والقيام بشأنها ، أخرجه السيوطي في حديثٍ عن عبدالرزاق عن ابن جريج (1) .
ولعلَّ ذلك كان في بعض الأحيان التي ينشغل فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأداء مهام الرسالة والقيام بأعباء الدعوة إلى الله تعالى.